
لقد فضّل الله (تعالى) بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، حسبما اقتضته حكمته البالغة؛ ليجدّ العباد في وجوه البر،ويكثروا فيها من الأعمال الصالحة.
والحمدُ للهِ الّذي فضّلَ الأشهرَ الحرامَ على سائرِ شهورِ العامِ، وخصَّها بمزيدِ الإجلالِ والإكرامِ.
فقد أظلَّنا في هذِه الأيّامِ ؛ شهرٌ عظيمٌ من الأشهرِ الحُرُمِ العِظامِ؛ الّتي أمر اللهُ سبحانه وتعالى بتعظيمِها، والالتزامِ فيها أكثرَ بدينِه وشرعِه، وإجلالِها؛ فقال جلّ وعلا :{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة : 36].

♣♣♣ التعريف بشهر رجب.
♦♦♦ شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة : 36].

♦♦♦ وثبت في الصّحيحين عن سيّد المرسلين (صل الله عليه وسلم) أنّه قال: (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا؛ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).
وقيل له: رجب؛ لأنّه كان يُرجَّبُ؛ أي: يُعظَّمُ، وأُضيفَ إلى مُضر، لأنّ قبيلةَ مُضـر كانت تزيد في تعظيمِه واحترامِه. وله غيرُ هذا من الأسماءِ الّتي تدلُّ على شرفِه.
وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.}
وشهر (رجب) أحد الأشهر الأربعة الحرم وهم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.

♣♣♣ معنى رجب، وسبب تسميته بهذا الاسم.
♦♦♦ قال العلماء: رجب، جمعه أرجاب، ورجبانات، و أرجبه و أراجبه.
وله ثمانية عشر اسماً.!!
الأول: رجب لأنه كان يرجب في الجاهلية .! أي يعظم.
الثاني: الأصم، لأنهم لا يسمعون فيه قعقعة السلاح.
الثالث: الأصب لقولهم: إن الرحمة تصب فيه.
الرابع: رجم؛ لأن الشياطين ترجم فيه.
الخامس: الشهر الحرام.
السادس: الحرم؛ لأن حرمته قديمة.
السابع: المقيم؛ لأن حرمته ثابتة.
الثامن: المعلى؛ لأنه رفيع عندهم.
التاسع: الفرد؛ وهذا اسم شرعي.
العاشر: منصل الأسنة، ذكره البخاري [البخاري رقم (4376)، وهو من قول أبى رجاء العطاوى].
الحادي عشر: مفصل الآل؛ أي الجواب؛ ذكره الأعشى في ديوانه.
الثاني عشر: منزل الأسنة؛ وهو كالعاشر.
الثالث عشر: شهر العتيرة؛ لأنهم كانوا يذبحون فيه.
الرابع عشر: المبري.
الخامس عشر: المعشعش.
السادس عشر: شهر الله.
السابع عشر: سُمي رجباً، لترك القتال، يقال: أقطع الله الرواجب.
الثامن عشر: سُمي رجباً لأنه مشتق من الرواجب.

♥♥♥الاسم: (رجب): الراء والجيم والباء أصل يدل على دعم شيء بشيء وتقويته، ومن هذا الباب: رجبت الشيء أي عظّمته، فسمي رجبًا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضًا.

♦♦♦ رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده.
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبريء، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة.

♥♥♥ وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي:
1- رجب: لأنه كان يُرجَّب في الجاهلية أي يُعظم.
2- الأصم: لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع فيه قعقعة السلام، ولا يسمع فيه صوت استغاثة.
3- الأصب: لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا.
4- رجم: بالميم لأن الشياطين ترجم فيه: أي تطرد.

5- الهرم: لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
6- المقيم: لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم.
7- المُعلى: لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور.
8- منصل الأسنة: ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي.
9- منصل الآل: أي الحراب.

10- المبريء: لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق.
11- المقشقش: لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له.

12- شهر العتيرة: لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة، وهي المسماة الرجبية نسبة على رجب.
13- رجب مضر: إضافة إلى مضر لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان، ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه قالوا: وقد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم.
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له، فلذلك أضيف إليهم.

♣♣♣ ينبغي علينا ألَّا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه شهر محرَّم يتأكد فيه اجتناب المحرمات لعموم قول الله عز وجل في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].

♣♣♣ ولقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلـّم) روايات متظافرة تشير الى الثواب العظيم والعطاء الجزيل لمن عرف حرمة الاشهر الثلاث (رجب وشعبان ورمضان) ولمن وصل الصوم في هذه الاشهر الثلاث.
ففي ثواب الاعمال ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلـّم) انه قال: (ألا إن رجباً شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي).
وافضل الاعمال في شهر رجب هو الورع عن محارم الله تعالى .

♦♦♦ قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: (خَصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ({فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر).
♥♥♥ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان).

♦♦♦ وإنّ الواجبَ على المسلمِ: أن يعرفَ قدرَ هذا الشهرِ الحرامِ ؛ ذلك لأنّ معرفتَه وتعظيمَه (هو الدِّين القيِّم) أي: المستقيم؛ الّذي لا اعوجاجَ فيه، ولا ضلالَ، ولا انحرافَ. كما يجب عليه أن يحذرَ من المعصية فيه؛ فإنّها ليست كالمعصيةِ في غيرِه؛ بل المعصيةُ فيها أعظمُ، والعاصِي فيه آثمُ؛ كما قال سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة : 217]؛ أي: ذنبٌ عظيمٌ، وجرمٌ خطيرٌ؛ فهو كالظّلمِ والمعصيةِ في البلدِ الحرامِ؛ الّذي قال الله عزّ وجلّ فيه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج : 25].

♦♦♦ ومن هنا: قال حبرُ الأمّةِ وتُرجمانُ القرآنِ عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ كما روى الطّبريّ في (تفسيره): - (في كلِّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهرٍ فجعلهنَّ حراماً، وعَظّم حُرُماتِهنَّ، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظمَ).
وعن قتادة رحمه الله قال: (إنّ الظلمَ في الشهرِ الحرامِ أعظمُ خطيئةً ووزراً من الظلمِ فيما سواهُ، وإنْ كان الظلمُ على كلِّ حالٍ عظيماً، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ من أمرِه ما شاء. وقال : إنَّ اللهَ اصطفى صَفايا من خلقِه؛ اصطفى من الملائكةِ رسلاً، ومن النّاسِ رسلاً، واصطفى من الكلامِ ذكرَه، واصطفى من الأرضِ المساجدَ، واصطفى من الشهورِ رمضانَ والأشهرَ الحُرمَ، واصطفى من الأيّامِ يومَ الجمعةِ، واصطفى من اللَّيالي ليلةَ القدرِ؛ فعظِّموا ما عظَّم اللهُ؛ فإنّما تعظَّم الأمورُ بما عظَّمها اللهُ عند أهلِ الفهمِ والعقلِ).

♥♥♥ وإنّ من أظهرِ الدلائلِ على تعظيمِ هذا الشّهرِ الحرامِ: هو الابتعادُ عن ظلمِ الإنسانِ نفسَه؛ باجتِراحِ الذنوبِ والسيّئاتِ، ومقارَفَةِ الآثامِ والخطيئاتِ؛ ذلك لأنّ الذنبَ في كلِّ زمانٍ شرٌّ وشؤمٌ على صاحبِه؛ لأنّه اجتراءٌ على اللهِ جلَّ جلالُه وعظُم سلطانُه، لكنّه في الشهرِ الحرامِ أشدُّ سوءاً وأعظمُ شؤمًا؛ لأنّه يجمعُ بين الاجتراءِ على الله تعالى، والاستخفافِ بما عظّمه اللهُ جلّ وعلا.

♦♦♦ وإذا كان تعظيمُ الشهرِ الحرامِ أمرًا متوارَثًا لدى أهلِ الجاهليّةِ قبلَ الإسلام؛ يكفُّون فيه عن سفكِ الدَّمِ الحرامِ، وعن الأخذِ بالثّأرِ والانتقامِ؛ أفليس من ينتسبُ إلى الإسلامِ أجدرَ وأحرى بهذا الالتزامِ.؟!.
كيف والظلمُ عاقِبَتُه وخيمَةٌ ، وآثارُه شَنِيعةٌ؛ فلا فلاحَ مع الظلمِ، ولا بقاءَ مع الظّلم ، مهما بلَغ شأنُ الظّالمِ؛ فقد قال اللهُ عزّ وجلّ: ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام:21]، وقال جلّ في عُلاه: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام:47]؛ فلاَ بقاءَ للظلمِ والاعتداءِ والطغيانِ، ولا سُلطانَ لها على الدوامِ؛ مهما طال وامتدّ بها الزّمانُ، فقد قال الملكُ العظيمُ الشَّانِ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ﴾ [الحج: 48]، وثبت في الصحيحين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللهَ لَيُملِي للظَّالمِ حتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ)، ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102].

♦♦♦ وإذا كانت هذه عاقبةَ الظّالم في سائرِ الأوقاتِ والأزمانِ؛ فكيف بالظّالمِ المعتدِي في هذا الشّهرِ الحرامِ، وفي هذه الأيّامِ العظامِ.
ولهذا قال النّبيّ (عليه الصّلاةُ والسّلامُ) في حجّةِ الوداعِ لأصحابِه -كما ثبت في الصّحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه:- (أَيُّ شَهْرٍ هَذَا.؟
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَقَالَ: أَلَيْسَ ذا الحَجَّةِ.؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا.؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ: أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ.؟ قُلْنَا: بَلَى . قال: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا .؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ؛ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ.؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّراً -أو قال: ضُلَّالاً -؛ يَضْـرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَلَعَلَّ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ. ثمّ قال: أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ).

♦♦♦ ولهذا فينبغي على المسلم أن يكون في هذا الشّهر أكثرَ ابتعاداً عن الذّنوبِ والآثامِ، وتوقِّياً لكلِّ ما يغضبُ الملكَ العلّامَ؛ فيبتعد عن ظلمِه لربِّه بالإشراك به سبحانه، وصرفِ شيءٍ من العبادةِ لغيرِه عزّ شأنُه. ويبتعد عن ظلمِه لإخوانِه بالاعتداءِ عليهم وسفكِ دمائِهم، أو أكلِ أموالِهم وحقوقِهم، أو الولوغِ في أعراضِهم، ونهشِ لحومِهم، وتتبّعِ عوراتِهم، وإفشاءِ أسرارِهم، وإلحاقِ الأذى بهم.

♦♦♦ ويبتعد عن ظلمِه لنفسِه، والإساءةِ إلى شخصِه؛ بمعصيتِه لخالقِه، وخاصّة ما يتساهلُ فيه بعضُ النّاسِ من صغائرِ الذُّنوبِ؛ فإنّ صغائرَ الذّنوبِ متى استرسل فيها الإنسانُ كان على وجهِه في النّارِ مكبوبٌ؛ إلاّ أن يتوب، وإلى ربِّه يؤوب؛ فقد ثبت في (مسند الإمام أحمد) عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ).

♦♦♦ وكما أنّ المعاصيَ تعظُمُ في الشهرِ الحرامِ؛ فكذلك الحسناتُ والطّاعاتُ تعظُمُ وتُضاعفُ في هذه الأيّام ؛ فالتّقرّبُ إلى اللهِ عزّ وجلّ بالطّاعةِ في الشّهرِ الحرامِ أفضلُ وأحبُّ إليه سبحانه من التّعبُّدِ في سائرِ الأيّامِ؛ كما سبق في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وجعل الذنب فيهنّ أعظم، والعمل الصّالح والأجر أعظم).

♦♦♦ فيستحبُّ للمسلمِ في هذا الشّهر الإكثارُ والمواظبةُ على ما ثبتت به السنّةُ في سائرِ الأيّامِ من نوافلِ الطّاعاتِ؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقاتٍ، وغيرِها من القرباتِ ، مع المحافظةِ على الفرائضِ والواجباتِ، ولكنْ لا يشرعُ تخصيصُه بعبادةٍ من العباداتِ، أو اعتقادُ أنّ لها فضلاً في هذا الشّهرِ على سائر الطّاعاتِ؛ والحالُ أنّه لم يشـرعْها لنا فيهِ النّبيُّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، ولا فَعَلَها فيه صحابتُه الكرامُ رضي الله عنهم.

♣♣♣ فإن الشهور و الأيام تتفاضل كما يتفاضل الناس، فرمضان أفضل الشهور ويوم الجمعة أفضل الأيام، وليلة القدر أفضل الليالي.
والميزان في إثبات أفضلية شهر أو يوم أو ليلة أو ساعة شرع الله تعالى، فما ثبت في الكتاب أو السنة الصحيحة أن له فضلاً أثبت له بعد ذلك الفضل، وما لم يرد فيهما أو ورد فيه أحاديث ضعيفة أو موضوعة فلا يعترف به ولا يميز على غيره.

♣♣♣ وجوب الالتزام بالسنة.
♥♥♥ لم تثبت أحاديث خاصة بفضيلة الصوم في شهر رجب سوى ما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامة قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: (ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) ، وإنما وردت أحاديث عامة في الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والحث على صوم أيام البيض من كل شهر وهو الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، والحث على صوم الأشهر الحرم، وصوم يوم الإثنين والخميس، ويدخل رجب في عموم ذلك، فإن كنت حريصًا على اختيار أيام من الشهر فاختر أيام البيض الثلاث أو يوم الاثنين والخميس وإلَّا فالأمر واسع، أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلًا في الشرع.

♣♣♣ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهر رجب كاملًا ولا شهر شعبان كاملًا، ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، بل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شهرًا كاملًا إلَّا رمضان، وقد ثبت عن عائشة ل أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهر إلَّا رمضان وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان) [رواه البخاري ومسلم]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا قط غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله ولا يصوم) [رواه البخاري ومسلم].
♣♣♣ لا يوجد لشهر رجب ميزة عن غيره من الأشهر الحرم، ولم يثبت في فضل العبادة فيه شيء، فلا يخص بعمرة ولا بصوم ولا غيره، فهو كسائر الأشهر الحرم.

♣♣♣ فصيام رجب كله تطوعًا وشعبان كله تطوعًا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في صومه فكان بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [رواه البخاري ومسلم].
♣♣♣ وحرى بالمسلم أن يتبع ولا يبتدع؛ إذ محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم تنال بالإتباع لا بالابتداع: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31 - 32 ]..

بَيِّضْ صَحيِفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبِ بِصَالِحِ الْعَمَلِ الُمنْجِي مِنَ اللَّهَبِ
شَهْـرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمِ إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فِيـهِ لَمْ يَـخِبِ
طُـوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيـهِ لَهُ عَمَلٌ فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالرِّيَـبِ
فاللّهمّ بارك لنا في رجبٍ وشعبانَ، وبلّغنا رمضانَ، ونحن في أمنٍ وأمانٍ، وسلامةٍ وإسلامٍ. اللّهمّ آمينَ، أمينَ.

سائلًا الله عز وجل أن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يجعله خالصًا لله متبعًا فيه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم راجيًا من الله القبول والسداد والهداية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.