مصر بعد الثورة...إلى أين ..؟
بعد سقوط حسني مبارك كانوا المصريين على وشك فتح باب عهد جديد في تطور بلادهم. إلا أن المجتمع المصري اليوم منقسم أكثر من ذي قبل. ولا يزال الطريق إلى الديمقراطية طويلا
يتسم الوضع الحالي في مصر بنزاعات سياسية واشتباكات طائفية وتدهور اقتصاد البلاد. ومن يبحث هذه الأيام في مصر عن أنباء إيجابية لن ينجح في ذلك إلا نادرا فقط، إذ يبدو أن عملية الانتقال الديمقراطية متعثرة. والتقارير عن مصر تدور بالدرجة الأولى حول أعمال عنف وأوضاع
فوضوية
تفاؤل المصريين إثر إسقاط الدكتاتور حسني مبارك ..إذ أن الكثيرين اعتقدوا آنذاك أنهم يقفون أمام باب عهد جديد يتميز بالمزيد من الديمقراطية وحقوق أوسع وعدالة اجتماعية للجميع. إلا أن آمالهم هذه خابت. ويلعن الكثيرون الثورة. ولذلك يتساءل مصريون كثيرون عما ذهب بعد الثورة على نحو خاطئ
وقد قام الإسلاميين باستقطاب المصريين
وكان الإخوان المسلمون الذين حصلوا في الانتخابات البرلمانية في أواخر عام 2011 على حوالي نصف الأصوات، أكبر أهمية على الدين حيث(يشكل الدين في مصر أبسط وسيلة لكسب أصوات الناخبين، فنسبة 40 بالمائة من السكان أميون. ولذلك، فإن التأثير عليهم ليس صعبا).
وقد حمل الإسلاميون بقايا النظام السابق المسؤولية. ويقولون إن الفلول من أنصار مبارك يعرقلون تقدم البلاد. وأن مخلفات مبارك لا تزال ..
وقد وجدوا في مقاومة الفلول المزعومة "حجة بحتة يلجئون إليها الإخوان المسلمون غير المستعدين لإجراء الإصلاحات
ورغم أن ثورة 25 يناير التي بدت للعالم بأسره كواحدة من إعجازات الإرادة البشرية في تغيير الواقع الأليم مهما كانت ضراوته وضخامته وتوحش باطله، مما جعل دائرة الانبهار والإعجاب بها تتسع لتشمل حتى الدول المعادية قبل الصديقة، والمتقدمة قبل النامية، وصارت هذه الثورة المباركة مصدر إلهام لكثير من الحركات الثورية والتجمعات الشبابية والباحثين عن العدل والحرية، ولكن مع الوقت أخذ الإعجاب يخبو والانبهار يزول، فقد ذهبت السكرة وبقيت الفكرة، وحان وقت العمل، وانتهى وقت الاحتفال، وأصبح المصريون على موعد مع أيام صعبة كئيبة، ومشاهد درامية مريبة، ولم يبق عالقًا من ذكرى أيام الثورة المجيدة، سوى كلمات المخلوع مبارك التي قالها في آخر خطاب مشئوم ألقاه قبل خلعه، عندما وجهه إنذاره الأخير للمصريين: "اختاروا بيني وبين الفوضى"، فكانت الفوضى التي بشَّر بها المخلوع المصريين قبل رحيله، وأصبحت مصر بعد الثورة تعوم على بحر من المشاكل والاضطراب والتوتر
فلماذا كل هذا الكم من المشكلات والتوترات والاضطرابات في مصر..؟؟ بداية لابد من أن نعترف أن ثمة خطأ بالغ في تقدير حجم المشكلات التي كانت تعاني منها مصر خلال حقبة مبارك الطويلة، فالديكتاتورية والاستبداد والفساد الذي كان عليه نظام مبارك قد أورث البلاد حجمًا مهولاً ومخيفًا من الإشكاليات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والاعتقاد بأن جرائم مبارك منحصرة في الفساد المالي ونهب خيرات البلاد، محض خيال ووهم كبير وسوء تقدير، أدى لهذه الأوضاع المؤلمة في الشارع المصري، والمظاهر المقلقة التي بدت عليها الفترة الانتقالية في مصر خير مثال على أن مصر ستعاني كثيرًا من ميراث مبارك وتركته الثقيلة التي تركها لحكومة ما بعد الثورة
وبعيدًا عن ميراث مبارك وتركته الثقيلة، وبعيدًا عن التفسيرات لكل حادثة، وبعيدًا عن المؤثرات الخارجية، لنا أن نتساءل قائلين: أين الخلل..؟
فإن لب المشاكل التي تعاني منها مصر اليوم من بعد الثورة، يتمثل في طبيعة الشعوب التي انسحقت أمالها وقتلت أحلامها تحت الاستبداد والظلم والفساد لفترات طويلة، ثم نالت حريتها واستردت كرامتها وفرصتها في الحرية والعدالة الاجتماعية، فهذه الشعوب وليس الشعب المصري وحده، تكون في مرحلة ما بعد الثورات محملة بمطالب شعبية ذات طموحات عالية وأمال عريضة، تستدعي إجراء تغييرات جذرية في توزيع القوة والثروة داخل المجتمع، وهذا التغيير الشامل والذي يستهدف البنية التحتية لنظام راسخ عشرات السنين يواجه بعقبات من العيار الثقيل
وهذا ما رأيناه صراحة في مصر، فاستقراء الأوضاع في بلاد الثورة يكشف لنا موطن الخلل وأصل الداء، ومن أبرز هذه العقبات
إثارة الاحتجاجات والمطالب الفئوية والعامة بصورة لا نهائية، في الوقت الذي تواجه مصر حالة من تقلص الموارد، وانهيار الاقتصاد، فالذي لم يكن يعرفه المصريون أن مصر مبارك لم يكن لديها اقتصاد متكامل أو نامي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما كان يعتمد اقتصاد البلاد على مدخولات محدودة من قناة السويس وغيرها، في حين تتولى دول الخليج وأمريكا والاتحاد الأوروبي وهي الدول الداعمة لنظام مبارك والمستفيدة من وجوده، تتولى تدعيم الاقتصاد المصري بعشرات المليارات سنويًّا من هبات ومنح ومساعدات وقروض مريحة، فلما سقط مبارك منعت هذه الدول
دعمها المادي القوي عن مصر، وانكشفت حقيقة الاقتصاد المصري، فثورة التطلعات الشعبية مع الوقت والوقوف أمام الحقيقة الأليمة قد تحولت إلى ثورة من الإحباطات
وبدأ الصراع السياسي بين أجنحة الثورة، فقد تحول مشهد الاتحاد الثوري في ميدان التحرير مع الوقت إلى صراع أيدلوجي بحت بين إسلاميين وعلمانيين، وبدا أكثر عمقًا وجذرية وعنفًا أيضًا، وتحولت الثورة من إقامة نظام ديمقراطي جديد محل نظام ديكتاتوري مستبد إلى صراع على السلطة
من ناحية، وصراع على الدولة من ناحية أخرى، حيث تسعى كل القوى إلى إثبات وجودها وحجز حصتها في النظام الجديد، ورسم نطاقاتها المحجوزة، ليس فقط من خلال آليات التحول القائمة على المنافسة السياسية، ولكن باستمرار الحشد الثوري في معركة المليونيات المتبادلة بين الأغلبية الإسلامية والأقلية العلمانية، وأيضًا باللجوء إلى العنف الذي يقود يومًا لو تزايدت وتيرته إلى إجهاض الثورة كلها، هذا الصراع ولَّد حالة شديدة من الاستقطاب داخل الشارع المصري، سدت أفق التعامل والتوافق الرحبة بين القوى السياسية، وأعاقت بناء النظام الجديد، بدا للعيان أن المسألة قد تحولت لصراع بقاء بين الأغلبية الإسلامية والأقلية العلمانية، وفي هذه الأجواء لا يصلح أبدًا بناء نظام جديد ومؤسسات حكم راشدة، واختيار السياسات والاستراتيجيات السليمة، وتوظيف القادة المؤهلين الأكفاء؛ لأن المسألة برمتها قد خضعت لغير المعايير الطبيعية في البناء والتحول الصحيح
وأصبح
الجدل المستمر بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، في الوقت الذي دأب فيه الثوار والمتظاهرون على مطالبة مرسي باتخاذ قرارات ثورية، فمنعوه وبشده من استخدام أدوات هذه الآلية الثورية، بدعوى أن ذلك يفتح بابًا للاستبداد والديكتاتورية، مثال ما حدث مع النائب العام، مما أوجد حالة من الثورية المزمنة التي لا تعرف متى تتوقف، فهناك شريحة من الثوار أصبحت الثورة عندهم غاية، ومن ثم فهو يعتقد أنها دائمة ليس لها حدود، وأصبح شعار الثورات التاريخي (الشعب يريد إسقاط النظام) شعارًا مبتذلاً يرفع كلما كان هناك مطلب ثوري أو فئوي، وهؤلاء الثوار أو مدعو الثورية قد فقدوا بوصلتهم الأصلية، وأصبحوا يرفضون فكرة الخضوع للدولة والنظام مهما كانت درجة استقامته؛ لأن ذلك ينتقص من شعورهم وكيانهم الثوري بزعمهم، ومن ثم كانت مظاهر الاحتشاد السلبية والمليونيات الفارغة والتظاهرات عديمة الأسباب، وكل ذلك عبء على كاهل الدولة والنظام الوليد
كما أن نظام البيروقراطية التي كانت عليها مؤسسات الدولة، والنظم الموروثة المعيبة التي قامت عليها هذه المؤسسات التي ما زالت تعمل بنفس النهج القديم، فالسلبيات المزمنة التي خلفها نظام مبارك ربما تكون أقوى من حكم الإخوان أو أي فصيل آخر، فالبيروقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي عليها المؤسسات المصرية تقف حائط صد ومحور ممانعة عنيد ضد محاولات الهيكلة والتغيير، وهذا المحور بالتعاون مع أعداء الثورة في الداخل والخارج هو الذي يقود الثورة المضادة في مصر..
أما أكبر عوائق المرحلة وأكثرها تعقيدًا فهو الشعب المصري نفسه الذي أثبت بعد مرور عامين من الثورة، أن البلاد لم تكن بحاجة لرئيس جديد، بقدر ما هي تحتاج إلى شعب بفكر وعقل جديد، فسياسة التجهيل التي فرضت على المصريين أكثر من ستين سنة أنتجت في النهاية شعبًا مغيبًا لدرجة كبيرة، لا يعرف مسئولياته وواجباته وحقوقه والتزاماته، لا يعرف حقوقه السياسية وواجباته الاجتماعية ومسئولياته القانونية، تداخلت عنده المسارات، فلم يعد يعرف ما هو مطلوب منه، وما هو حق أصيل له، وأصبح المواطن المصري يرى نفسه بلا أية مسئوليات أو التزامات،
وأن المسئولية تقع وحدها على النظام والحكومة، بالتالي تم إدانة النظام الجديد في كل النكبات الحادثة في مصر بعد الثورة، فأصبح الإهمال والتسيب وعدم الالتزام هو نصيب الحكومة وحدها والمواطن مظلوم معها، وصعوبة هذا العائق أن تغيير العقول والأفكار والثقافات يحتاج لوقت طويل وجهد كبير وأجيال متعاقبة، وخطورته أن العنصر البشري هو الأهم في عملية الاستقرار والنهوض
ورغم كل هذه العوائق إلا إن التفاؤل لن يموت، والأمل لن يخبو، فكل هذه العوارض طبيعية مرت به معظم البلاد التي قامت بها ثورات شعبية ضد أنظمة فاسدة، والتاريخ شاهد على أن الثورة الروسية قد مكثت 18 سنة قبل أن تصل لمرحلة استقرار الحكم، والثورة الفرنسية مكثت أكثر من ثلاثين سنة، والثورة البرتغالية مكثت 8 سنوات قبل الاستقرار، وغيرها كثير، فالمطالبون بإجهاض الثورة المصرية كثر، ومصالحهم متشابكة ومشاربهم مختلفة، ولكن غايتهم واحدة وهدفهم ثابت، لذلك فإنه ليس من المتوقع أن تستقر البلاد في الوقت القريب، ولكنها من المؤكد أنها
ستستقر ولو بعد حين، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والمتتبع للواقع السياسي المصري ً يلاحظ حالة التمزق والانقسام بين القوى السياسية، وفقدان التنسيق حتى بين فئات النخبة بعضهم ببعض، وبينهم وبين القوى الثورية التي تفتتت هي الأخرى. ويبدو أن الكل قد ضل الطريق، ولا يمكن الادعاء بأن هناك من يستطيع الإجابة على سؤال: مصر إلى أين..؟!
وعادة ما يكون الحل للخروج من الأزمة الرجوع إلى نقطة الصفر.
وقد اتفقت القوى السياسية على مبدأ أساسي، هو أن الثورة لم تحقق أياً من أهدافها إلى الآن، حتى إن إسقاط النظام كان ظاهرياً؛ فما تم إسقاطه هو أشخاص، لكن النظام السابق بمؤسساته لا يزال قائماً
أن الصراعات في الشارع السياسي جاءت مخيبة للآمال؛ فالكل يحاول استقطاب السلطة لصالحه، سواء كان مدنيا أو عسكريا. فقد أوجدت الانتخابات الأخيرة سلطة طاغية لا تريد إفلات السلطة منها، وكانت النتيجة حزبا مسيطرا ، ويريد أن يكون صاحب الكلمة كحكومة وكرئيس
ومن خلال ما سبق، يمكن أن نصف الواقع السياسي الحالي بأنه فضفاض، يفتقد الهدف والوسائل المؤدية إليه، والأدوات التي تساعد على تحقيقه، وتغلب عليه قيم التسلط والمصالح الخاصة، وتشرذم القوى الفاعلة ورؤاها، وغياب القيادات والرموز التي يمكن الالتفاف حولها، وعدم
تسلم الثوار الحقيقين لمقاليد السلطة وصنع القرار. وبذلك، يفضي المشهد الحالي إلى ثلاثة سيناريوهات: إما إعادة إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة، أو سيطرة قوى بعينها على الواقع السياسي، أو الفوضى والرجوع إلى نقطة الصفر(ثورة أخرى).