نحن أجيال عربية ..ولدت في زمن القهر والمذلة ..لم نعطى الفرصة يوما للحلم ..بالنصر والوحدة ..لا في النوم ولا في اليقظة …وكأن هناك شبحا مقيتا يراقب أحلامنا وأنفاسنا وتطلعاتنا ..
قرأنا وسمعنا وشاهدنا كثيرا عن ثورة يوليو وأبطالها ..ولكن ليس من سمع كمن عاصر ورأى رأي العين وتفاعل مع الأحداث في وقتها وعاش حلاوة الحلم ..فالكثير من جيلنا فكرته مشوشة عن هذه الثورة العربية ..خاصة لما يلصق بها من أخطاء سياسية كبيرة ..وأيضا محاولات الأعلام العربي التابع والعميل في تشويه سمعة رجالاتها إلى أقصى درجة وأظهارهم وبالذات الزعيم جمال عبدالناصر كقائد فاشل وديكتاتور بشع ..(وكأن الحال اليوم في الدول العربية أفضل وكأننا اليوم ننعم بعصر الديمقراطية والحرية ..
وأن حقوق الأنسان التي تدنت في عهد عبدالناصر هي اليوم في أزهى عصورها ولا يوجد أبدا نظم عربية قائمة على أساس مخابراتي ..تجسسي تحسب على المواطن أنفاسه وهمساته )…وأيضا لما يراد أن يلصق بها من أبوة زائفة لثورات عربية في بلاد أخرى …
ولكن رغم هذه الأخطاء الكثيرة لثورة يوليو (والتي ربما الكثير منها كان من صنع خيال كتاب ومؤلفين أفلام مغرضين ) ..رغم كل شيء إلا أنها تظل حلم عربي وحدوي ونهضوي وقومي جميل ..كنا نتمنى أن نعيشه …حلم بعزة وكرامة ورفعة ..وأمل دائم في النصر ..
لن أقف كثيرا على الأتهامات التي توجه للثورة من أنها كانت نظام حكم ديكتاتوري شمولي مطلق ..والأخطاء التي وقعت فيها ..لإن أرث عظيم من الجهل والتخلف والفقر والطبقية والتبعية المطلقة للغرب كانت تحمله هذه الثورة الفتية على عاتقها وكان عليها أيضا أن تواجه جبهات من الأعداء ..داخليا وخارجيا ..إقليميا ودوليا ..هذا كله في فترة قصيرة لم تتعدى الست عشر عام هي كل فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر .. وثورة يوليو كتجربة عربية قومية وحدوية ..كانت تجربة جديدة ..ككل التجارب معرضة للكثير من الأخطاء ..ولكن الجميل في الأمر أن عبدالناصر كشخصية قيادية فذة كان من النوع الذي يستفيد ويتعلم من أخطائه ..وأنه يغفر له ما وقع فيه أخطاء هو نيته الواضحة للإصلاح والبناء والتقدم للأمة العربية كلها وليس القطر المصري وحده …
لن اقف أبدا على هذه الاخطاء البسيطة لو قورنت بواقعنا اليوم ..وإنما سأقول انه عندما قامت ثورة يوليو ..أصبح كل شيء جميل …الوطن حلم ..والحرية أمل …والكرامة واقع ..والنصر يقين …حتى الفن العربي في تلك الفترة أتخذ مسارا راقيا وجميلا ..لم يصل إليه لاقبل ولا بعد تلك الفترة …كان أحساس العرب واحدا … أمل الوصول بمصر إلى الوحدة العربية وبناء وطن عربي فيدرالي قوي وفعال ، ذلك الحلم الذي لا يزال يحتل وجدان الشعوب العربية من المحيط الي الخليج ..عبد الناصر وثورته أستطاعوا أن يجعلوا ولأول مرة الشعب العربي وكأنهم على قلب رجل واحد ..حتى الحكام العرب وقتها ..لم يكن خائنهم أو عميلهم يتجرأ على فعل أو قول شيء يمس الكرامة العربية أو ينقص من حقوقنا الشرعية ..لإن الشعوب كانت لاتزال تحتفظ ببعض القوة تستمدها من شخصية ذلك الرجل الصعيدي ابن الشعب ..ناصر
لو أغفلنا إنجازات ثورة يوليو من إجلاء المستعمر الأجنبي والقضاء على الاقطاع والضمانات الاجتماعية والنهضة بالتعليم في مصر وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي و إعادة بناء الهوية الفلسطينية بإقرار القمة العربية في الإسكندرية 1964و تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية والتأسيس لنصر أكتوبر من خلال حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967ودعم العديد من حركات التحرر في الوطن العربي وأهمها دعمها للمقاومة الشعبية في بلاد المليون شهيد ..الجزائر ..وتبنيها واحتضانها للقضايا العربية الجوهرية كالقضية الفلسطينية وجعلها قضية العرب الاولى …لو أغفلنا كل هذه الانجازات وغيرها الكثير جدا ..فهي لا تعد ولا تحصى ..
لوجدنا أن أهم ما حققته ثورة يوليو ..أ نها أرجعت الثقة للمواطن العربي ….الثقة في النصر والوحدة …الثقة في نفسه وفي حكومته ..وهذا ما لم تحققه أي حكومة عربية أخرى في ذلك الوقت ..
وبعد ذلك كله لا أملك إلا أن أقول أن ثورة يوليو بقيادة الراحل البطل جمال عبد الناصر كانت واحدة من من أكبر وأعظم وأهم الثورات في تاريخ مصر والعالم العربي والعالم الثالث ..بكل ما لها وما عليها ..بكل زلاتها وأنجازاتها ..فالتجربة كانت عظيمة ورائعة وتستحق الإشادة ..بل تستحق الفخر والتذكر والاحتفال بها …