قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق..
إن ما يراق اليوم من دماء المسلمين بغير حق ليس بأيدي أعدائهم بل بأيدي البعض منهم لهو أشد وأعظم جرما ً مما يسومهم أعداؤهم من اليهود ومن يعاونهم من المرتدين الظالمين المعتدين من أنواع العدوان والظلم .
فإن قتل المسلمين بأيدي بعضهم البعض ممن يدّعون تمثيلهم للإسلام الحق مستحلين لهذا القتل هو أشد من قتل المسلمين بأيدي الكفار الذين هم يستحلون قتل المسلمين أصلا ً . لما فيه من المفاسد والتي منها أن يتحدث أعداء هذا الدين أن المسلمين يقتل بعضهم بعضا ً . وأن الإسلام دين لا يحترم دماء من ينتسب له سواء كانوا رجالا ً أو نساء ً أو أطفالا ً فهم يُقتَلون مع من يُقتَل من غير أهل الإسلام . من غير يهتم لذلك من يقتلهم من المسلمين .وبالتالي يكون سببا ً في انصراف الناس من الدخول في الإسلام , أو اصطفاف بعض من يتضرر من المسلمين من هذه الأفعال مع صفوف الأعداء ومعاونتهم على المسلمين انتقاما ً من الذين تسببوا في قتل عزيز له أو قريب . وغير ذلك من المفاسد الملموسة والمشاهدة في واقعنا اليوم.. ولأن هذا التعدي على حدود الله تعالى هو من أهم أسباب الخذلان والخسارة في الدنيا والآخرة . ومن أهم أسباب تسلط أعداء الله تعالى علينا في الدنيا .
إن الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة الدالة على تحريم قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق كثيرة ..
ويجب على الناس والمسلمين أتباع الشرائع السماوية ..و ألا يتقاتلوا ولا يُعينوا قاتلاً ولا يشتركوا في قتل أحد من البشر مهما كان دينه أو طائفته ، ولنتعاون جميعاً على البر والتقوى ولا نتعاون على الإثم والعدوان امتثالاً لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )
الترهيب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
الآيات القرآنية الكريمة:-
قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)
وقال سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )
وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)
وقال عز وجل: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)
وقال سبحانه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)
وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
وقال سبحانه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وقال عز وجل: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
وقال عز وجل: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)
الأحاديث النبوية الشريفة-:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) رواه البخاري
2- عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجه بإسناد حسن ، ورواه البيهقي والأصبهاني وزاد فيه: (ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار).
وفي رواية للبيهقي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دم سُفك بغير حق)
3- وعن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) رواه النسائي والترمذي مرفوعاً وموقوفاً ورجح الموقوف.
4- وروى النسائي والبيهقي من حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ).
5- وعن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبكِ وما أطيب ريحك ، ما أعظمك وما أعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ماله ودمه) رواه ابن ماجه
6- عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ) الترمذي وقال حسن غريب.
7- روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) رواه ابن ماجه والأصبهاني ورواه البيهقي من حديث ابن عمر.
8- عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمناً متعمدا) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ، ورواه أبو داود وابن حبان من حديث أبي الدرداء.
9- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه أبو داود ، قال يحيى الغساني: الذين يقاتلون في الفتنة فيَقتُلُ أحدُهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله.
10- عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عنق من النار يتكلم يَقُولُ وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ وَبِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَيَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ) رواه أحمد والبزار والطبراني.
حالات جواز القتل : -
الحالة الأولى :-
فهي القصاص العادل الذي وإن قتل نفساً فقد ضمن الحياة
للمجتمع نفسه .
كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ{178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[ البقرة :178-179]
نعم .. حياةٌ بردع هؤلاء الذين يفكرون مجرد تفكير في الاعتداء على الناس .
وحياةٌ بكفَّ أهل المقتول عن الثأر قد لا يقف عند القاتل بل يتعداه إلى أهله ممن لا ذنب لهم ولا جريرة .
وحياة يأمن فيها كل فرد على نفسه لأنه يعلم يقيناً أن هناك قصاصاً عادلاً ينتظر كل من يتعدى حدود الله .
أما الحالة الثانية :-
التي يجوز فيها القتلُ وبالرجم فهي للثيب الزاني الذي رزقه اللهُ الحلال الطيب فراح يرتعُ في مستنقع الرذيلة العفن .
والحالة الثالثة : التي يجوز فيها القتلُ تكون لمن ترك دينه وارتد بعد أن منَّ الله به عليه .
فالردة بالإجماع سبب لإباحة دم المسلم .
يقول النبي صل الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن ابن عباس: (من بَّل دينه فاقتلوه)
هذه هي الحالات الثلاث التي تبيح قتل المسلم على يد ولي الأمر المسلم أو من
ينوب عنه .
أما فيما عدا هذه الحالات فإنه لا يجوز أبداً قتل النفس بل إن الأمر جد خطير وكيف لا وقد قال جل وعلا : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }[النساء:93]
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) . قال : فقال ابن عمر : إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدم الحرام بغير حِلَّه
وفي سنن النسائي من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي r قال : (كلُ ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً ، أو الرجل يموت كافراً) وفي الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء ورواه الحاكم والنسائي وأحمد من حديث معاوية وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أن النبي قال :
(كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً ) وفي الحديث الذي رواه النسائي من حديث بريده رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( قتلُ المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا )
الله أكبر .... فكم يكون عظيماً عند الخالق زوال الدنيا على قدر عظمتها .
فإذا علمنا أن قتل المؤمن أعظم من زوال الدنيا علمنا خطورة وفظاعة القتل العمد بما لا يمكن للغة البشر أن تصفه وقد جمعه من أوتي جوامع الكلم في هذا اللفظ الوجيز .
وفي الحديث الذي رواه النسائي والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( من أمَّنَ رجلاً على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافراً )
عن عبيد الله بن عدي أن المقداد بن عمرو الكندي – وكان حليفاً لبني زهرة وكان ممن شهد بدراً مع النبي صل الله عليه وسلم - أخبره أنه قال لرسول الله صل الله عليه وسلم : أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا ، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : لا تقتله فقال : يا رسول الله قطع إحدى يدي ، ثم قال ذلك بعد ما قطعها ، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال)
وقام النبي صل الله عليه وسلم في حجة الوداع يبين حرمة هذه الدماء فيقول والحديث في الصحيحين من حديث ابن أبي بكرة ( أي شهر هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم . وهذا من أدب الصحابة رضي الله عنهم ، قال فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : ( أليس البلدة ؟ قلنا : بلى ، قال : فأي يوم هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت ، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس يوم النحر ) قلنا : بلى يا رسول الله قال : ( فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم فلا ترجعوا بعدي كفاراً أو ضلالاً يضرب يعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب )
ولحرمة هذه الدماء عند الله جل وعلا وأنها ليست رخيصة بسفكها من شاء وقت شاء بل هي عظيمة عند الله جل وعلا .
ولذا فإن أول ما يُقضى فيه يوم القيامة هو الدماء .
كما في الصحيح وغيرهما أن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( أولُ ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء )
ولا منافاة بين هذا وبين قوله ( أول ما يحاسب به العبدُ الصلاة )
فهذا حق بينه وبين الله والدماء حق العباد .
وقد ورد عند النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ ( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس الدماء )
ولذلك قال علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري (أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن جل وعلا للخصومة )) يريد قصته في مبارزته هو وصاحبه يوم بدر وفيهم نزل قول الله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج:19]
فإذا قامت القيامة وقام الناس جميعاً لرب العالمين ووقفوا في أرض المحشر حفاة عراةَّ غُرلا وقد دنت الشمس من الرؤوس وتصبب العرق على قدر الأعمال وزفرت جهنم وزمجرت وقد جيء لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وتطايرت الصحف ونصبت الموازين ونودي عليك .
فقرع النداء قلبك وارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك وجاءت الملائكة الموكلة بسوقك إلى الله تعالى .
حتى إذا ما وقفت بين يدي ملك الملوك وجبار السموات والأرض أخذت صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة !!
فانتبه ... يُنادى عليك أيها القاتلُ المجرم يا من سفكت دماء الموحدين المؤمنين فتأتي فرداً عارياً لا سلطان لك ، ولا مال معك ، لتفتدي به وقد أحاط بك من كل ناحية من قتلتهم في الدنيا وقد تعلقوا به وأوداجهم [أي عروق أعناقهم] تشخب [أي تسيل] دماً ويقولون لله جل وعلا سل هذا القاتل فيم قتلنا كما في سنن النسائي من حديث ابن عباس وهو حديث حسن قال سمعت النبي يقول : ( يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب [تسيل] أوداجه دما ، فيقول : أي رب سل هذا فيم قتلني ؟ ) وفي رواية (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً ، يقول : يا رب ، قتلني هذا ، حتى يدنيه من العرش ، قال : فذكروا لابن عباس التوبة فتلا هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قال : وما نُسِخَت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة ؟ )
الله أكبر .....
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق
اقرأ كتابك يا عبد على مهلٍ
فلما قرأت ولم تنكر قراءته فلما
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي
المشركون غداً في النار يلتهبوا
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
على العصاة ورب العرش غضبانا
فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
والموحدون في دار الخلد سكانا
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي r قال لأصحابه يوماً (أتدرون من
المفلس ؟) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا فَيُعْطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَي ما عليه ، أُخذ من خطاياهم ثم طرح في النار )
ثانياً :- حكم من قتل نفسه فمات منتحراً
أحبتي في الله :
ولم ينتف هذا الوعيد الرهيب في حق من قتل نفسه منتحراً والعياذ بالله بل هو خالد في النار لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صل الله عليه وسلم قال :
(من تردى من جبل (أي ألقى بنفسه) فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساهُ في نار جهنم خالداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً )
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن رسول الله التقى هو والمشركون فاقتتلو ، فلما مال النبي صل الله عليه وسلم إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها يضربها بسيفه – فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ، فقال رسول الله : (صل الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار ) .
فقال رجل من القوم : أنا صاحبه أبداً .
قال فخرج معه كلما وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجُرِحََ الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله فقال : أشهد أنه رسول الله .
قال : ( وما ذاك ؟) .
فقال : الرجلُ الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك ، فقلت : أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت ، فوضع سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه ( ذبابة السيف : طرف رأسه) ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله عند ذلك :
(إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدوا للناس وهو من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم )
وفي رواية أخرى في الصحيحين عن أبي هريرة قال : فلما أُخبر النبي أن الرجل قتل نفسه كبر النبي وقال : ( أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الكافر )
ثالثاً :- حكم القتل الخطأ
وقد بينه الله جل وعلا في سورة النساء بقوله :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:92]
فالحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة وديةٌ تسلمُ إلى أهل القتيل فأما تحرير الرقبة المؤمنة فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس بعنق نفس مؤمنة أخرى .
وأما الدية فتسكين لثائرة نفوس أهل القتيل وشراٌْ لخواطرهم بعد ما فجعوا في قتيلهم وتعويض لهم عن بعض ما فقدوه إلا أن يصدَّقوا ويتنازلوا عن هذا الحق تسامحاً..
وتعاطفاً .
الحالة الثانية :-
أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت لكن لا يجوز دفع الدية لقوم القتيل المحاربين حتى لا يستعينوا بها على قتال المسلمين ، إذا لا مكان ولا مجال هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم محاربون وأعداء للإسلام والمسلمين .
أما الحالة الثالثة :-
فهي أن يقع القتل على مؤمن أو على غير مؤمن قومه معاهدون أي لهم عهد هدنة أو عهد ذمة .
وفي هذه الحالة يجب أن تدفع الدية إلى أهله المعاهدين ولو لم يكن القتيل مؤمناً لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين ويجب أيضاً على القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة
هذه هي أحكام القتل الخطأ .
وذهب أهل السنة وما عليه المحققون من علماء السلف أن القاتل المتعمد إن تاب تاب الله عليه لأن الأخذ بظاهر آية النساء ومن يقتل مؤمنا متعمداً ليس بأولى من الأخذ بظاهر قوله تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114]
وقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25]
وقوله تعالى : {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ النساء :48]
ثم إن الجمع بين آية النساء وآية الفرقان ممكن فلا نسخ ولا تعارض وذلك بحمل الحكم المطلق في آية النساء على الحكم المقيد في آية الفرقان لا سيما وقد اتفقا في الحكم والسبب فيكون معناه : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93]
{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70]
وأما الأحاديث التي تذكر هذا أيضاً فهي كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت وليه أن النبي قال :
(تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن وفَىَّ منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) وكذلك حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين عن النبي صل الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض ؟ فدٌل على راهب ، فأتاه ، فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله ، فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ؟ فدُل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق ، أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً ، مقبلا إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة )
وأخيراً قال علماؤنا من قتل مؤمناً متعمداً فتاب تاب الله عليه أما إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي
{فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93]
اللهم اغفر ذنوبنا يا رب العالمين.